لم يكن الوقت مفهومًا داخل ذلك المكان الأبيض. لا نهار ولا ليل، لا ظل ولا شمس. فقط بياض كثيف، يبتلع كل فكرة عن الواقع. وقف سامر في صمت، ينظر إلى الأجهزة المتناثرة حوله، وكل واحد منها يهمس بحكاية. بعض الأصوات بكاء، وبعضها ضحك هستيري، وأخرى دعوات استغاثة. ميرا كانت بجانبه، لكنها لا تزال مذهولة، عيناها تتابع المشهد ببطء، وكأنها تحاول فهم قوانين عالم لا يخضع لأي منطق. الرجل العجوز اقترب منهما أكثر. "ما ترونه هنا هو أرشيف. كل جهاز يحتوي على لحظة مستقبلية... لكن ليست لأي شخص. إنها لحظات حاسمة لأناس مختارين." سأل سامر، وصوته بالكاد يخرج: "لكن... لماذا نراها؟ لماذا نُختار نحن؟" ابتسم الرجل، لكن ابتسامته لم تكن مطمئنة، بل مثقلة بالمعرفة. "لأنكما من القلة الذين يستطيعون تغيير النتيجة. الجهاز لا يكشف المستقبل... بل يرشد من يمكنه إعادة تشكيله." نظرت ميرا إليه بدهشة: "يعني إحنا نقدر نمنع اللي شفناه؟" هز رأسه: "ليس فقط المنع، بل إعادة كتابة المسار بالكامل." اقتربا من أحد الأجهزة. كان ينبض بسرعة، وعندما وضع سامر يده بالقرب منه دون لمسه، رأى صورة لشارع مألوف في بلدته، لكنه كان مزدحمًا بالجثث، ودخان أسود يصعد من المدارس. ارتجف. لم يكن الأمر مجرد رؤيا عشوائية، بل تحذير حقيقي من شيء قادم. ومهمتهم الآن... إيقافه. سأل الرجل: "كيف نعود؟ كيف نخرج من هنا؟" قال: "عليكما أن تدخلا الرؤية كاملة. أن تعيشاها بكل تفاصيلها. وفقط عندما تفهمان السبب الحقيقي وراء ما ترونه... سيفتح لكما الباب للخروج." أمسك سامر بيد ميرا. تبادلا نظرة صامتة. ثم لمس الجهاز. الضوء ابتلع كل شيء، ثم عاد الظلام. وبدأت الرؤية. كان سامر في مدرسته، زملاؤه يلعبون في الفناء، لكنه كان يعلم أن شيئًا ما سيحدث. رأى رجالًا يدخلون المدرسة من البوابة الخلفية، يحملون حقائب. رأى عيني أحدهم... كانت باردة، خالية من الرحمة. اختبأ خلف الحائط، ثم لمح ميرا، في نفس المكان، لكن في زمن مختلف. كانت تحمل دفتر ملاحظات، تبكي، وتنظر للسماء. بدا وكأن الزمن نفسه انكسر، وأن الرؤى تتقاطع. صوت همسة سُمع داخل رأسه: "ابحث عن المفتاح." وفي لحظة، عاد إلى المكان الأبيض. كان يتنفس بسرعة، وجهه مغطى بالعرق. "رأيت ما سيحدث… تفجير في المدرسة." قالت ميرا: "وأنا رأيت رمادًا يسقط من السماء… لكن ليس من نار، بل من شيء يسقط." نظر الرجل إليهما وقال: "أنتم الآن جاهزون. المفتاح موجود، لكنه ليس شيئًا... بل قرار. عليكم أن تختاروا: إما النسيان، والعودة إلى حياتكما، أو البقاء، ومعرفة كيف توقفان كل هذا." سأل سامر: "إذا اخترنا البقاء… هل هناك أمل؟" ردّ الرجل: "الأمل لا يُعطى، بل يُصنع." في لحظة صمت طويلة، تبادلا النظرات. لم يكن هناك مجال للعودة. القرار كان واضحًا. قال سامر: "نبقى." قالت ميرا: "حتى النهاية." وفجأة، بدأت الأجهزة تذوب في الهواء، واختفى البياض تدريجيًا، ليُستبدل بصوت مألوف... صوت نهر، ونسيم غابة. فتحا أعينهما... وعادا إلى الغابة. لكن شيئًا تغيّر. لم تكن الغابة كما كانت. كانت أهدأ، والهواء ثقيل، وكأن العالم يعرف أنهما قد عادا... ليس كما غادرا.
جهاز النبوءة – الجزء الثالث
