جهاز النبوءة – الجزء الأول

post-title

في صباح خريفي بارد، حيث كانت ضبابات النهر تزحف ببطء على الحقول المحيطة ببلدة "نعيم"، خرج سامر كعادته إلى الغابة الصغيرة التي خلف بيتهم، يطارد السكون ويهرب من صخب الحياة المنزلية. كان في الثالثة عشرة من عمره، نحيلًا، سريع الخطى، حاد العينين كقط بري، يحمل في قلبه فضولًا لا يرويه شيء. بين الأشجار المبتلة وصرير العصافير، لمح سامر ضوءًا خافتًا ينبعث من بين الأعشاب. لم يكن ضوء شمس ولا انعكاس زجاج. اقترب، فوجد جسمًا بيضويًا صغيرًا، أسود كالفحم، أملس كجدار مرآة، ينبض بنور خافت كأن فيه قلبًا نابضًا. لا أزرار، لا فتحات، لا كتابات. بدا كأنه شيء لا ينتمي لهذا العالم. تردّد لثوانٍ، ثم مدّ يده ولمسه. وفي اللحظة التي لامست فيها أصابعه سطح الجهاز، تجمّد الهواء من حوله. اختفى صوت الطيور، وخفّت ألوان الغابة. شعر أن جسده لم يعد على الأرض، وأن عينيه انفتحتا على مشهد آخر تمامًا: هو نفسه واقف في شارع موحل، تحيط به ألسنة لهب، ومبنى يتهاوى أمامه، وأمه تصرخ من بعيد، وجهها مغطى بالرماد، ودموعها تحترق قبل أن تصل إلى خديها. ثم، فجأة، انتهى كل شيء. استعاد وعيه وهو جالس على الأرض، يلهث بقوة، ويده ترتعش. كانت الرؤية قصيرة، لكنها حفرت في قلبه أثرًا لا يُمحى. نهض كأنما أفلت من موت محقق، وركض نحو البيت دون أن ينظر خلفه، تاركًا الجهاز خلفه، وكأن لمسه لُعنة لا يجب أن تتكرر. لكنه لم يستطع النوم تلك الليلة. تكررت الرؤية في حلمه، بنفس التفاصيل، نفس الصرخة، نفس النار. في الصباح، لم يخبر أحدًا، فقط جلس طويلًا على حافة سريره، يتأمل يده التي لامست ذلك الشيء. بحلول الظهيرة، قادته قدماه إلى الغابة مجددًا، كأن شيئًا ما في داخله يدفعه للعودة. لم يكن يعرف لماذا، لكنه شعر أنه يجب أن يراه مرة أخرى، ليتأكد من أنه لم يكن مجرد وهم. وحين وصل إلى المكان، كان الجهاز هناك... لكن هذه المرة، لم يكن وحده. كانت هناك آثار أقدام غريبة حوله، متشابكة، متباينة في الحجم، كأن أكثر من شخص مرّ من هنا. انقبض قلب سامر، وارتبك. هل رآه أحد غيره؟ هل استخدمه أحدهم؟ أم أن الجهاز نفسه... يتحرك؟ اقترب ببطء، عيناه تبحثان عن أي علامة. حمل الجهاز بين يديه، ولمع النبض الخافت مرة أخرى. لكنه لم يلمسه هذه المرة. جلس أمامه يتأمله طويلًا، وأخذ يدون ملاحظاته في دفتر صغير يحمله معه دائمًا. كتب: "جهاز أسود – رؤية مستقبلية – حريق – أمي". في تلك اللحظة، سمع وقع خطوات خلفه. التفت بسرعة، فلم يرَ أحدًا. لكن بين الأشجار، لمح شيئًا يلمع... شيء معدني، يشبه الجهاز، لكن أكبر قليلًا. وسامر لم يكن يعلم أن هذا اللقاء الأول، لم يكن سوى بداية سلسلة من الأحداث التي ستغيّر حياته... والبلدة كلها.

الكلمات المفتاحية:

كاتبة وحالمة، تركت روتين الحياة اليومية لأبحث عن القصص التي تُلهم وتُشفي وتُطلق الخيال.
مشاهدة جميع المنشورات (27)