وقف سامر مكانه متجمّدًا. النظرة السريعة التي لمح فيها الجهاز الآخر لم تكن كافية، لكنها زرعت في داخله رعبًا غريبًا. كيف يكون هناك جهاز آخر؟ هل هناك من يصنعها؟ أم أن الغابة نفسها تخفي ما هو أعمق مما يظنه؟ لم يجرؤ على التقدّم. جلس على صخرة مبلّلة، يراقب بعينيه كل تفصيل في المكان. الأشجار متشابكة، والهواء أكثر برودة من المعتاد، وكأن الغابة نفسها تحبس أنفاسها. مرت دقائق بطيئة قبل أن يسمع الصوت. خطوات ناعمة... ثم تكسّر غصن يابس. نهض ببطء، قلبه يخفق كطبول حرب. نادى بصوت مرتجف: "مين هناك؟" لا رد. فقط السكون، والمزيد من الخطوات. ثم، فجأة، ظهرت فتاة في مثل عمره تقريبًا. شعرها أشعث، وثيابها متربة، لكن نظرتها كانت ثابتة، وملامحها لا تحمل أي خوف. "أنت لمسته، صح؟"، قالت بصوت خافت، لكنه واضح كالسهم. تردّد، ثم أومأ برأسه. "أنا لمسته كمان... وشفت أشياء... غريبة." نظرت إلى السماء، ثم أضافت: "بس ما كان المفروض نرجع له. الجهاز بيختارنا، بس ما بيسامحنا إذا تجاهلناه." اقتربت منه وجلست مقابله. أخبرته أن اسمها "ميرا"، وأنها وجدت جهازًا مشابهًا منذ أسبوع، ولم تكن قادرة على نسيان الرؤية التي رأتها فيه. لم تخبر أهلها، ولم تعد إلى المدرسة. ظلت تراقب المكان، وفي كل مرة تأتي، ترى أشياء تتحرك من تلقاء نفسها. "أنا شفت نفسي واقفة فوق سطح بيتنا، وفيه شي بينزل من السما. نور قوي، وبعده كل شي صار رماد." ظل سامر صامتًا، يشعر أن الخوف داخله يتحول إلى فضول مشوب بالحذر. لم يكن وحده إذًا. لم يكن مجنونًا. لكن ماذا يعني كل هذا؟ قرّرا أن يعودا معًا في اليوم التالي، ومعهما كاميرا قديمة وجدها سامر في خزانة والده. أرادا أن يصوّرا الجهاز، وربما... الرؤية. في اليوم التالي، التقيا قرب النهر، وتوجها إلى المكان المعتاد. لكن المفاجأة كانت في انتظارهما: الجهاز الأول اختفى. حفر في الأرض، بحث بين الأعشاب، ولا شيء. أما الجهاز الثاني، الذي رأته ميرا بالأمس، فقد صار يلمع بقوة، وكأنه ينتظر لمسة أخرى. تردد سامر، لكن ميرا تقدمت أولًا. مدت يدها ولمسته. اختفت عيناها لوهلة، وتيبّس جسدها، ثم سقطت على الأرض. ركض سامر نحوها، لكنه ما إن لمسها حتى امتصّه ضوءٌ غامر، وسقط في الظلام. عندما فتح عينيه، لم يكن في الغابة. كان في مكان أبيض تمامًا، بلا سقف، بلا جدران. وفي منتصف الفراغ... كان الجهاز، محاطًا بعدة نسخ منه. وكل جهاز كان يصدر صوتًا مختلفًا... أصوات بشر يبكون، يصرخون، يضحكون، يتوسلون. اقترب سامر من أحدها، وقبل أن يلمسه، سمع صوتًا خلفه يقول: "لا تلمسه الآن. هذا المكان لا يُغادر بسهولة." استدار، فوجد رجلاً طاعنًا في السن، يرتدي معطفًا رماديًا، وعيناه خاليتان من الألوان. قال له الرجل: "كل من لمس الجهاز، صار جزءًا من رؤياه. أنتم الآن... على حافة الحقيقة." وهكذا، أدرك سامر أن ما بدأ بلحظة فضول، تحول إلى واقع أكبر من أن يفهمه، وأن الخروج من هذا العالم... لن يكون ببساطة الدخول إليه.
جهاز النبوءة – الجزء الثاني
